المساندة الاجتماعية علاج للاكتئاب بدون أدوية
الأبحاث الحديثة تشير أن معظم العلاجات الخاصة بالاكتئاب مثل : العلاج النفسي و منه العلاج النفسي المعرفي السلوكي (الذي يهتم بتغيير المفاهيم و السلوكيات الناتجة و المؤدية للاكتئاب ) و كذلك العلاجات التي لها علاقة بطريقة و أسلوب الطعام و نوعه و تأثير ذلك علي علاج الاكتئاب ، أو حتى الأدوية المضادة للاكتئاب ، كل هذا لا يكفي المريض للتحسن تحسن كامل.
و إن أهم الحلول للعلاج بالإضافة لما سبق هو علاج ربما هو من أقدم العلاجات للاكتئاب و هو المساندة الاجتماعية للمريض.
احد أهم الأشياء التي نجدها في مرضي الاكتئاب و تؤثر على خطة العلاج إنهم متيقنون إن الآخرين لا يشعرون بآلامهم أو أنهم لا يريدون أن يحملوا الآخرين هم و آلام المرض معهم . فمثلا يشعر كثير من مرضي الاكتئاب بعدم القدرة أو الرغبة علي القيام من السرير في الصباح أو الميل و الانخراط في البكاء بدون سبب و يفسرون ما يحدث لهم انه خطأ منهم ، حتى إنهم يلومون أنفسهم علي إن الأدوية لم تفعل مفعولها لعلاج الاكتئاب المرضي لديهم!!!!. و بالطبع يظل الإحساس إنهم لم يستطيعوا التغلب علي المرض و أنهم عالة و ثقل علي الآخرين من الأهل و الأصدقاء و انه لا أمل في التحسن من هذه المشاعر.
و لكن حقيقة الأمر إن الاكتئاب له مخرج و قابل للتحسن و إن ما يعانيه المريض من كسل أو ضعف و بكاء ليس إلا أعراض مرضية قابلة للتحسن و إن الاكتئاب ليس سجنا بل مرض يشفي و يتحسن.
يتأثر الجميع ، حسب الإحصائيات ، من الاكتئاب. بنسبة واحدة لكل 3 نساء و رجل لكل 6 رجال. لاحظ إن النساء ضعف الرجال في الإصابة بالاكتئاب. سواء كنت واحدة من ثلاث نساء ورجال واحد في ست . أو انك علي الأقل قريب لأحد منهم. و العلاجات رغم توفرها إلا إنها لا تحمل حتى الآن الوقاية الأولية من المرض.
و قد تطور العلاج الدوائي لمضادات الاكتئاب الحديثة لعلاج المرضي من الأعراض بصورة سريعة ، و لكن لازال لا يأتي بثمار علاجية في حوالي 47% من المرضي . و ربما عاني المرضي أيضا من بعض الأعراض الجانبية للأدوية ، و كذلك عدم استجابة الجسم له و لذلك الأبحاث تنتج لنا أدوية مضادة للاكتئاب جديدة. و قد أشار الطب النفسي الحديث انه ربما لا يكون السبب الوحيد للاكتئاب هو تغيرات مواد السروتونين و الدوبامين و الأدرينالين في خلايا المخ ، و لكن أيضا زيادة هرمون الكورتيزول المرتبط بصلة وثيقة بالتوتر و الضغط العصبي.
.
و العلم حديث عرفنا أيضا ، إن للاكتئاب أسباب أخري غير التغيرات الكيميائية و هي التغير في التكوين التشريحي للمخ في ضمور المراكز المسئولة عن المشاعر و ذكرياتها ، و كذلك قلة نشاط القشرة المخية المسئولة عن صنع القرارات . و هذا الضمور و قلة النشاط المصاحب للاكتئاب يمكن استعادته عن طريق عملية طبيعية بخلايا المخ تسمي ؛" تصنيع الخلايا العصبية" ، و ذلك بالتأكيد بعد الشفاء من الاكتئاب . و لكن الخبر السيئ انه لا يوجد أدوية حتى الآن تساعد و تسرع هذه العملية المخية أو تساعد في استمرارها طوال الوقت للوقاية من مرض الاكتئاب.
رغم استخدام الأدوية الحديثة المضادة للاكتئاب و معها أيضا العلاجات النفسية المتخصصة إلا إن اضطراب الاكتئاب لا يزال من الأمراض المتكرر في نوباته مما يجعلنا نفكر في إجراءات أخري للوقاية من هذه النوبات الاكتئابية و هو التعامل و التكيف مع العوامل الاجتماعية الضاغطة و التي توتر الشخص . و منها طبعا أهمية المساندة الاجتماعية في المواقف الصعبة التي تجعلنا نتحملها و نتعامل معها. فنري أهميه العزاء و المشاركة في الأفراح و العيد و المشاركات المادية والمعنوية للأهل و الأصدقاء في المشاكل التي قد نواجهها في الحياة.
الوحدة و الإحساس بها و بالغربة و الاغتراب في الحياة ترتبط بالاكتئاب و الإدمان . و الإحساس بالاغتراب حتى و أنت في بلدك ووسط اهلك بسبب الحياة المادية و إيقاعها السريع الذي لا يسمح للآخرين بالاندماج معهم أو مساندتك أو مساندتهم هو من أكثر المشاعر التي تسبب الاكتئاب .
و الحقيقة إن هذه المساندة و الاندماج الاجتماعي هو أسلوب وقائي لكثير من الأمراض الجسمانية و النفسية و منها الاكتئاب . و لا بد أن نراجع أنفسنا في تربية أولادنا علي نمط اجتماعي فعال للمساندة و الاندماج مع الآخرين ، و التكافل الاجتماعي . ليس فقط لأهمية ذلك في تفاعل المجتمع المادي و لكن نحصل علي صحة نفسية أفضل للمجتمعات . و نري هذه الروح من التعاطف و المساندة في ابسط المجتمعات عن أكثرها تعقيدا و تقدما و نلاحظ القدرة علي تخطي المرضي و الأشخاص العاديين لمواقفهم الضاغطة التي قد تؤدي للاكتئاب ، بدون علاج أو أن تكون نتيجة العلاج أفضل بكثير .
بالطبع المال قد يسهل التربية التي نقصدها و لكن نوع التربية الذي يؤدي لصحة نفسية أفضل يحتاج لمجهود الجميع بدء من الأب و الأم و الأسرة الأكبر و الجيران و المدرسة و النادي و الجمعيات المهتمة . أي إن الصحة النفسية بهذا المعني للوقاية من الاكتئاب تحتاج من الجميع ثقافة منتشرة و لا تحتاج لتمويل مادي فقط. ففي كثير من أسرنا العربية نجد الوالدين مشغولين بالمستوي المادي للأولاد
و مستواهم الدراسي و المنافسة الرياضية أو حتى الترفيهية و لا نجدهم يهتمون بمهارات الأطفال الاجتماعية التي هي نواة لمساندة الجميع . فلا نجد من يحث الأطفال علي تفقد أحوال أصدقاؤهم أو جيرانهم أو المشاركة في الأفراح و الأحزان . بل نجد كثير من الآباء و الأمهات من يبعد أطفالهم و لا يعودهم علي ذلك بدعوى انه ليس لازما . فيصبح الطفل أناني و في أفضل الأحوال مشغول بنفسه عن الآخرين و لا يعرف كيف يشاركهم و يساندهم و يرفض أيضا مساندتهم لأنه لم يتعود عليه أو يعتبره ضعف. أو حتى انه يسعد بما حدث للآخرين لأنه يعزز عنده روح المنافسة و التغلب علي الآخرين في الحياة بدل من مشاركتهم و مساندتهم.
و في حياتنا المادية الحديثة نجد إن الأسر مضغوطة بشكل كبير بمتطلباتها و منعزلة عن المجتمع بطموحاتها و ذلك لا يفي باحتياجات أفرادها مثل مثلا : الشعور بالأمان الذي لا يجده الإنسان إلا في المجموعة و اعتماد أفرادها علي بعضهم مما يجعل كثير من المراهقين ينخرطون في جماعات متطرفة دينيا أو مجموعات من الشلل المنحلة ( في خطا للطريق ) للشعور بالأمان في مجموعة ، و هذا يدل علي نقص في التربية و ثقافة المجتمعات التي لابد أن تقدم بديل صحيح للمجموعات من الأصدقاء و الأهل ، فنجد الفرد لا يعرف أولاد و بنات عمومته و خالاته و لا ينخرط معهم و يفعل البديل الذي يكون شاذا و غير مقبول و ربما مضر له .
ثقافتنا الحالية أيضا تبعدنا عن الشعور بالأمان النفسي و لا نعرف ما يتوقعه أو نتوقعه من الآخرين في الأزمات.
كما إننا نعلم أولادنا ألا ينتبهوا إلا لمذاكرتهم و أعمالهم و لا نعلمهم كيف ينتبهون و يهتمون بمن معهم في الفصل الدراسي أو العمل لتنمية روح الفريق و المساندة الاجتماعية . فالفصول الدراسية تنمي القدرات الفردية فقط و لا تقدم مشروعات العمل الجماعي في الدراسة أو الفن مما يعزز روح الفردية و لا ينمي القيم الجماعية و إيجاد الذات من خلال الجماعة و فريق العمل . و بالطبع عند مواجهة الفرد لأي أزمة من خلال هذه الثقافة – ثقافة أنا و بعدي الطوفان أو ثقافة الفردية – يصبح من السهل الوقوع في الإحباط
و الاكتئاب .
و لأننا ننمي الفردية و المنافسة طوال الوقت في أولادنا ، تميل كثير من الأسر للنقد و إهمال الأوجه الاخري من المشاكل الأسرية
و تأثيرها علي الطفل أو الشاب . و ربما طلبنا منهم أكثر مما يستطيعون في الدراسة أو الرياضة ، و طلبنا منهم الاستغناء عن المشاعر مما يعرضهم أكثر للإحباط و الشعور بالفشل عند أي كبوة و ربما الهروب من المشاكل أو العنف أو الاكتئاب و كلها تفاعلات مرضية .
يزداد الشعور بها في حالة الفردية و عدم الاندماج الاجتماعي.
.
و علي العكس في حالة انتشار ثقافة المساندة و الاندماج الاجتماعي ، يشعر الأفراد بالأمان و يكون لمريض الاكتئاب الفرصة الكاملة للشفاء و تعلم مفاهيم جديدة تسانده في مرضه و انه ليس وحيدا . ففي رعاية الأم لطفلها من رضاعة و كلام و ابتسام و نظرة بداية للتفاعل الاجتماعي ، و انتقال لمشاعر الحب .
و كلما كبر الطفل لابد من التعامل معه بدون نقد أو إشعاره انه مذنب و كذلك معرفة قدراته و عدم طلب طموحات اكبر منها ،
و احتوائه عند تعرضه للمعاملة السيئة . و عدم استخدام ألفاظ توصفه بالفشل أو الغباء لان هذا يصدقه الطفل و يتصرف فيما بعد علي أساسه.
أولادنا يحتاجون ليس فقط لاحترام الآخرين و حبهم و لكن لآليات لإتمام ذلك مثل التواصل مع الآخرين ، و السماع و الإنصات لهم
و تقدير متطلبات الآخرين ، و تعلم العمل في فريق و جماعة مثل الاشتراك في صلاة الجماعة أو الأنشطة الدينية .
و نعلمهم إن الطموحات ليست فقط استهلاكية ، لشقة كبيرة و عربية و أموال في البنوك و لكن أيضا لابد أن يكون في طموحاتهم إسعاد الآخرين و وضعهم في اعتبارهم و تقبلهم و تقبل اختلافهم ( أي أن الاختلاف لا يفسد للود قضية و إن البشر متساوون حتى لو اختلف دينهم أو عمرهم أو لونهم ) و هم يخططون للحياة ، و ينبع ذلك من ثقتنا بأنفسنا و حبنا للآخرين .
علاج الاكتئاب بالأدوية و العلاج النفسي يساعد كثيرا في توقف نوبات المرض و لكن الشفاء و السعادة تكمن في المساندة و الاندماج الاجتماعي الذي يقينا أزمات الحياة التي لا محالة من حدوث بعض منها لنا .